HomeNewsPorts News

Reports : التنافس على الموانئ البحرية في القرن الأفريقي- الدوافع والتداعيات

إعادة صياغة المشهد الجيوستراتيجي في القرن الأفريقي مع تنامى اهمية الموانئ البحرية 

دراسة : ​أحمد عسكر ( مركز الامارات للسياسات )

يحتدم السباق الدولي على الموانئ البحرية بين اللاعبين الفاعلين في منطقة القرن الأفريقي، لما تحظى به تلك الموانئ من أهمية جيوستراتيجية كبيرة انبثقت من تنامي أهمية المنطقة ككل. وإذ تتعدد ملامح وأشكال هذا التنافس الذي أسهم في تدفق العديد من الاستثمارات إلى دول المنطقة، وخلق حالة من التنافس بين الموانئ وبعضها البعض، على نحو يشي بإعادة صياغة المشهد الجيوستراتيجي في القرن الأفريقي، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تحديات وفرص تؤثر على مستقبل المنطقة.

تتناول هذه الورقة الأهمية الاستراتيجية للموانئ في القرن الأفريقي، والخريطة التفاعلية لها، ومظاهر التنافس عليها ودوافعه، وتداعيات ذلك على دول المنطقة.

عوامل تنامي أهمية الموانئ البحرية في القرن الأفريقي

شهد العقد الأخير تدفق سلسلة من الاستثمارات الأجنبية في منطقة القرن الأفريقي، لا سيما الموانئ البحرية على طول ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي بهدف الحصول على حقوق امتياز لإدارتها لسنوات مقبلة، وعمليات التطوير والتشغيل لتلك الموانئ. وغالباً ما يتوازى مع عقد تلك الصفقات التجارية تعزيز النفوذ الأمني من خلال إقامة قواعد عسكرية بالقرب من موانئ المنطقة، مثل [تلك التي أقامتها] الصين في جيبوتي وتركيا في الصومال بهدف استغلال الجغرافيا السياسية للمنطقة، والدفاع عن مصالح القوى الدولية هناك وتعظيمها، الأمر الذي أسهم في تحويل القرن الأفريقي إلى ساحة ذات أهمية استراتيجية مهمة يتدافع نحوها العديد من القوى الدولية والإقليمية.

وتستمد الموانئ البحرية في القرن الأفريقي أهميتها المتصاعدة من محورية الموقع الجغرافي للمنطقة التي تطل مباشرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يعد أحد أهم المضايق المائية في العالم، ويمر عبره 13%-15% من إجمالي التجارة العالمية[i]، فضلاً عن القرب من مسرح الأحداث والصراعات الإقليمية في أفريقيا والشرق الأوسط التي تتماس مع مصالح وأجندات معظم القوى الفاعلة في المنطقة، مثل الحرب في اليمن التي منحت الموانئ البحرية الأفريقية أهمية جيوستراتيجية جديدة[ii].

وأسهمت دوافع القوى الفاعلة في القرن الأفريقي المتعلقة في خلق النفوذ وموطئ قدم هناك، وتطوير العلاقات التجارية مع دول المنطقة، وتعزيز استثماراتها هناك، وضمان حماية مصالحها الاستراتيجية، وتأمين مرور التجارة الدولية عبر البحر الأحمر من التهديدات الأمنية؛ في تنامي أهمية الموانئ البحرية التي باتت مدخلاً مهماً لتلك القوى في تحقيق هذا الأمر، ويدلل عليه تضخُّم الاستثمارات في مجال تطوير الموانئ البحرية بالمنطقة، وانتشار القواعد العسكرية في عدد من الدول مثل جيبوتي والصومال وإريتريا والسودان. وإذ تضمن الموانئ البحرية بشكل عام مرور نحو 80% من تجارة البضائع العالمية من حيث الحجم، و70% من حيث القيمة[iii]، تتعزز أهمية الموانئ في القرن الأفريقي من خلال دورها كمعبر محوري لمعظم تجارة الدول الأفريقية والقوى الدولية، خاصة الموارد النفطية والغاز الطبيعي وغيرها من الثروات الطبيعية، وهو ما يتطلب الاهتمام بتحسين البنية التحتية للموانئ وتوافر شبكات النقل الحديثة.

eBlue_economy_موانئ_القرن_الافريقي

وباعتماد حوالي 90% من تجارة دول القرن الأفريقي، على البحر الأحمر كممر مائي مهم في التواصل مع العالم الخارجي[iv]، ونظراً لأن أفريقيا تعد بمثابة سوق ناشئة تمتلك قدرات كبيرة من الموارد الطبيعية والعنصر البشري، يستلزم ذلك الوصول إلى تلك الأسواق والتواصل مع العالم الخارجي عبر الموانئ البحرية التي تعتبر ضرورية لتحفيز النمو الاقتصادي، وتنويع اقتصادات الدول الأفريقية، وخلق فرص العمل، والحد من الفقر في حالة رشادة توزيع العوائد. ومن هنا تأتي أهمية تنمية موانئ دول المنطقة، والتغلب على ضعف النقل والبنية التحتية اللوجستية لتصبح قادرة على المنافسة عالمياً، خاصة أن أفريقيا لديها أكثر من مئة ميناء بحري، وتنظر التقديرات إلى الموانئ البحرية باعتبارها العمود الفقري لاقتصادات دول القرن الأفريقي خلال العقود الثلاثة المقبلة.

وفي إطار المساعي الدولية والإقليمية لمكافحة الإرهاب في شرق أفريقيا، تعد بعض الموانئ البحرية مثل ميناء جيبوتي وميناء هوبيو الصومالي بمثابة مفتاح للجهود الرامية للحرب ضد الإرهاب، والحد من تهديدات بعض التنظيمات الإرهابية مثل حركة الشباب المجاهدين الصومالية، حيث يمكن أن يشكل ميناء هوبيو قاعدة مهمة في هذا المجال، لاسيما في تجفيف منابع التمويل للعناصر الإرهابية، التي تحاول استغلال الميناء كممر للأسلحة غير الشرعية وقناة اتصال بين عناصر تنظيمي القاعدة و”داعش” في اليمن والصومال[v].

eBlue_economy_موانئ_القرن_الافريقي

ولأن منطقة القرن الأفريقي تشكل حلقة اتصال استراتيجية بين مناطق أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، تبدو موانئ المنطقة في دول مثل جيبوتي وإريتريا والصومال بمثابة حلقة ربط مهمة بين المراكز التجارية الناشئة في شرق أفريقيا مثل إثيوبيا وبين دول أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، كما أنها بوابة مهمة لشرق القارة الأفريقية ووسطها. وتتضاعف أهميتها كونها جزءاً مهماً من بعض المبادرات الدولية مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، وممر التنمية الآسيوي الأفريقي الذي أطلقته الهند واليابان لمواجهة النفوذ الصيني في البحر الأحمر[vi].

وإذ تتصاعد أهمية منطقة القرن الأفريقي باعتبارها نقطة التقاء البحر الأحمر مع منطقة المحيط الهندي التي تشهد تنافساً محتدماً بين بعض القوى الدولية مثل الولايات المتحدة والصين والهند؛ قد يجد هذا التنافس طريقه إلى المنطقة، خاصة بين الصين والهند، بهدف تعزيز النفوذ والهيمنة من خلال السيطرة على الموانئ البحرية، وإيجاد موطئ قدم عسكري، وما يترتب عليه من تدفق الاستثمارات لبلدان المنطقة[vii].

كما تلعب الزيادة المضطردة في تعداد السكان، وتزايد طبقة المستهلكين في دول القرن الأفريقي، دوراً في زيادة الطلب على السلع المستوردة من الخارج، مما يوسع الاعتماد على الموانئ البحرية، ويُحفِّز على تحسين قدراتها لضمان استمرارية سلاسل التوريد إلى أفريقيا.

خريطة الموانئ البحرية في القرن الأفريقي

تزخر منطقة شرق أفريقيا بعدد كبير من الموانئ البحرية على طول ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي، فهناك أكثر من ثمانية موانئ بحرية متطورة في القرن الأفريقي في إريتريا وجيبوتي والصومال والسودان وكينيا على البحر الأحمر[viii]، تتمثل أبرزها في الآتي:

– ميناء بورتسودان: يعتبر الميناء الرئيس في السودان، ويتكون من عدة موانئ مختلفة الاختصاصات هي الميناء الشمالي والميناء الجنوبي والميناء الأخضر وميناء الخير وميناء سواكن. وبورتسودان هو المنفذ البحري الوحيد للسودان التي تمر تجارتها عبره، ويمكن الاعتماد عليه من قبل بعض الدول الحبيسة مثل جنوب السودان وأوغندا والكونغو الديمقراطية. كما أنه يتوسط البحر الأحمر، ويعد ممراً مهماً للبحر المتوسط عبر قناة السويس مما يجعله قريباً من تطورات التجاذبات الدولية والإقليمية في شرق المتوسط، وفي أحداث ليبيا، وهو ما جعل موسكو تندفع نحو إنشاء قاعدة لوجيستية لقواتها فيه. ويمكن الربط بينه وبين أهم الموانئ السعودية المطلة على البحر الأحمر، والتي تبعد عنه بنحو 250 كيلومتر.

– ميناء عصب الإريتري: يقع في أقصى جنوب البلاد، ويتمتع بموقع استراتيجي مهم، لقربه الجغرافي من مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يبعد عنه بمقدار 20 ميلاً بحرياً. كما يقترب من الحدود اليمنية، وبعض الموانئ اليمنية مثل ميناء المخا الذي يبعد عنه بحوالي 40 ميلاً بحرياً.

– ميناء مصوع الإريتري: يعد الميناء الرئيس في إريتريا، وهو الأكبر مساحة والأكثر نشاطاً مقارنة بميناء عصب. ويتوسط الساحل البحري الإريتري، وتتزايد أهميته الاستراتيجية بسبب موقعه القريب من مضيق باب المندب، وكذلك اليمن ومنطقة الخليج العربي.

– ميناء جيبوتي: يقع عند مدخل البحر الأحمر الجنوبي[ix]، وهو أحد موانئ التصدير الرئيسة في شرق أفريقيا[x]. كما يعد حلقة وصل وبوابة مهمة لأسواق بلدان شرق ووسط أفريقيا ومركزاً إقليمياً لنقل البضائع[xi]. ويطل على مضيق باب المندب الذي يتمتع بأهمية جيوستراتيجية كبيرة، وتعتمد عليه بكين بوصفه أحد الموانئ الرئيسة في شرق أفريقيا ضمن مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها في عام 2013.

– ميناء بربرة: يقع في إقليم أرض الصومال، وهو من أقدم الموانئ الصومالية[xii]، وتُجرى بعض التوسعات في الميناء لاستيعاب المزيد من الحاويات والبضائع. ويوصف هذا الميناء بأنه مفتاح البحر الأحمر[xiii]. ويمثل عامل الاستقرار الأمني لأرض الصومال حافزاً قوياً للاعتماد على الميناء مستقبلاً، تجارياً وعسكرياً، كما يُنظر إليه كبديل مستقبلي محتمل لميناء جيبوتي في المنطقة.

– ميناء مقديشو: يعد أكبر الموانئ في الصومال، ويمكنه التعامل مع مختلف أحجام السفن التجارية. ويتمتع بأهمية استراتيجية كونه يطل على ساحل المحيط الهندي، كما أنه يقع ضمن الحزام الاستراتيجي لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

– ميناء بوصاصو: هو ثاني أكبر ميناء في الصومال بعد مقديشو، ويطل على خليج عدن. ويتميز بالقرب من مدخل مضيق باب المندب، وفي مواجهة الساحل البحري اليمني، وتحديداً ميناء المكلا.

– ميناء هوبيو: يقع في شمال شرق الصومال بالقرب من خليج عدن ومضيق باب المندب، ويمثل حلقة وصل بين شمال الصومال وجنوبه. ويمكن أن يمثل بوابة عبور للصادرات النفطية من إقليم أوجادين في إثيوبيا إلى العالم الخارجي[xiv].

– ميناء مومباسا: يعد من أكبر الموانئ في شرق أفريقيا، ويعتبر مركزاً إقليمياً لشرق ووسط أفريقيا، ويتوقع أن يكون قادراً على التعامل مع 110 مليون طن من البضائع بحلول عام 2040 مقارنة بـ 22 مليون طن سنوياً في الوقت الراهن، واستقبال أكثر من 2.6 مليون حاوية بحلول عام 2025. كما يخدم الميناء دول أوغندا ورواندا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ويحتوي على 21 مرسى بالإضافة إلى رصيفين للنفط السائل، ويوفر الميناء خيارات عدة للمستثمرين الأجانب مثل عمليات التخزين[xv].

– ميناء لامو: يقع شمال ميناء مومباسا في كينيا، ويتألف من 32 مرسى، ويمكن استغلاله كمنفذ للدول الحبيسة. وهو جزء من مشروع “لابسيت” Lapsset الممر الذي يربط بين جنوب السودان وكينيا وإثيوبيا، مما سيمنحه مزايا عدة كبوابة ومركز للنقل في منطقة شرق أفريقيا[xvi].

دوافع التنافس الإقليمي والدولي ومظاهره

ضاعفت الموانئ البحرية الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي لتحتل مرتبة متقدمة بالنسبة لسياسات القوى الإقليمية والدولية الطامحة للعب دور هناك مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والإمارات وتركيا وإثيوبيا. ومع تنامي المصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية لتلك القوى، تتعزز أهدافها على المديين القصير والطويل في استغلال موانئ المنطقة اقتصاديّاً وتجاريّاً لتحفيز اقتصاداتها، وضمان الحصول على المزيد من الموارد، وصولاً إلى الحصول على عقود امتياز لإدارة هذه الموانئ الاستراتيجية تدوم لسنوات طويلة.

دوافع القوى الفاعلة

ثمة عدد من المحددات التي تدفع اللاعبين الدوليين للتنافس على الموانئ في القرن الأفريقي، والتي ينطلق معظمها لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية واستراتيجية، ويظل العامل الاقتصادي حاسماً لدى التفاعل الدولي مع منطقة القرن الأفريقي، إذ تتطلع تلك القوى إلى الاستفادة من الموارد والثروات التي تحظى بها دول المنطقة، وفتح أسواق جديدة لها هناك والوصول إلى وسط وجنوب القارة، فضلاً عن تنفيذ المزيد من الاستثمارات والمشروعات الاقتصادية، خاصة مع ظهور استكشافات نفطية جديدة، وتطوير مشروعات النفط والغاز المرتقبة في بعض دول المنطقة مثل إثيوبيا والصومال التي أشارت تقارير إلى امتلاكها احتياطات نفطية هائلة تصل إلى 100 مليار برميل[xvii].

كما يمثل أمن البحر الأحمر وفي القلب منه أمن الموانئ البحرية دافعاً قوياً لتعزيز الحضور الدولي في القرن الأفريقي بحجة المساهمة في ضمان حرية الملاحة الدولية، وتأمين مرور التجارة الدولية، ومكافحة عمليات القرصنة عند مضيق باب المندب وخليج عدن، وصد التهديدات الأمنية والإرهابية. وهناك رغبة جماعية لدى القوى الدولية في أن يصبح الحزام الساحلي الذي يضم إريتريا وجيبوتي والصومال ساحلاً آمناً لضمان سلامة التجارة بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر[xviii].

وتبرز أهمية الموانئ البحرية في القرن الأفريقي أيضاً في كونها تمثل منصات يمكن استغلالها لاستهداف بعض التنظيمات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة مثل جماعة الحوثي في اليمن، وحرمان بعض القوى المناوئة مثل إيران من استغلال الموانئ لتقويض أمن المنطقة، فضلاً عن تعزيز عمليات المراقبة والاستطلاع الاستخباراتية للتحركات الدولية والإقليمية في نطاق البحر الأحمر والمحيط الهندي.

وتدفع تطلعات بعض القوى الدولية مثل الصين في أن تصبح قوة بحرية عالمية، نحو السعي للاستحواذ على أكبر عدد من الموانئ البحرية في المنطقة، خاصة بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق التي تعتمد على بعض الموانئ مثل ميناء جيبوتي[xix].

مظاهر التنافس على الموانئ

اتخذ التنافس الدولي والإقليمي المتصاعد على الموانئ البحرية أشكالاً وصوراً متعددة، تتمحور أهمها في الاستثمار في الموانئ التجارية، وإبرام اتفاقيات التعاون الاقتصادي، وإقامة القواعد والمنشآت العسكرية، وضمان تأمين نقاط الاختناق الاستراتيجية (مضيق باب المندب)، والاستثمار بكثافة في البنى التحتية، والمناطق التجارية الحرة.

وتظل الصين الفاعل والشريك الرئيس لمعظم موانئ المنطقة خلال السنوات الأخيرة، في إطار الدور المحوري الذي تقوم به في تطوير وتنمية تلك الموانئ كجزء من إتمام مبادرة الحزام والطريق البحري التي تعد منطقة البحر الأحمر جزءاً رئيساً منها، إذ مولت العديد من المشروعات الخاصة بالبنية التحتية والتطوير في المنطقة، مثل خط السكك الحديدية الذي يربط بين إثيوبيا وميناء جيبوتي بطول 750 كيلومتر، بقيمة 4 مليارات دولار[xx]. والتفكير في إنشاء خط بحري يربط بين الصين وآبار النفط في منطقة أوغادين بشرق إثيوبيا عبر ميناء هوبيو الصومالي[xxi]. كما تنفذ استثمارات ضخمة في عدد من الموانئ مثل ميناءي جيبوتي ومومباسا الكيني. وتدير بيجين بعض المبادرات مثل مبادرة OBOR الصينية التي تركز بشكل أساسي على الموانئ البحرية في كل من مصر وجيبوتي وإثيوبيا وتنزانيا إلى جانب زامبيا وأنغولا[xxii].

وتخطط موسكو لتوسيع نطاق قوتها البحرية في البحر الأحمر، ففي نوفمبر 2020 وافق رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين على مشروع اتفاق لإنشاء قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان بالسودان للحفاظ على السلام والاستقرار الإقليمي. وتسعى موسكو إلى التمركز بالقرب من مسرح العمليات في ليبيا وشرق المتوسط، وتعزيز علاقاتها التجارية مع السودان ودول المنطقة، وحماية استثماراتها، وتعزيز مصداقيتها كحصن آمن ضد تهديدات الأمن البحري في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وإعادة تأكيد نفسها قوة بحرية في البحر الأحمر[xxiii].

وفي الصومال، تواصل تركيا تعزيز حضورها بالسيطرة على ميناء مقديشو، حيث وقعت شركة البيراك التركية، التي تدير الميناء منذ عام 2014، اتفاق امتياز جديد لمدة 14 عاماً مع الحكومة الصومالية في أكتوبر 2020 لإدارة وتشغيل الميناء، بعد التفاوض على إعادة تقاسم العوائد بينهما[xxiv]. وفي مؤشر لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي، أعلنت تركيا عن تدشين خط ملاحي يربط أنقرة بحرياً بالصومال وجيبوتي، بحيث يقلص فترة تسليم البضائع من 35-55 يوماً إلى 9-10 أيام، مما يُعزز التبادل التجاري بين تركيا ودول المنطقة[xxv].

كما وقعت حكومة ولاية جلمدغ Galmudug الصومالية اتفاقاً مع اتحاد Oriental Terminal ومقره لندن، ويتألف من شركات تركية وصومالية وبريطانية لإدارة ميناء هوبيو الصومالي الاستراتيجي، وهو ما يعني نهاية الخطط السابقة التي طُرحت بإشراك قطر في هذا المشروع، خاصة بعدما أفادت تقارير بأن الحكومة القطرية قد وقعت في أغسطس 2019 اتفاقية بقيمة 170 مليون دولار لبناء الميناء من خلال شركة موانئ قطر[xxvi].

وتنشط شركة موانئ دبي العالمية في القرن الأفريقي بشكل ملحوظ، حيث تنفذ عدداً من المشروعات في بعض الموانئ مثل إدارة ميناء بوصاصو في الصومال، ومينائي مصوع وعصب الإريتريين، وتوسيع ميناء بربرة في أرض الصومال لرفع قدرته للتعامل مع أكثر من 500 ألف حاوية سنوياً، ومن المقرر أن تكتمل المرحلة الأولى من عملية التطوير بحلول الربع الأول من عام 2021. ويعد هذا المشروع بمثابة بوابة لوجستية لوسط وشرق القارة، ومركزاً لحركة الحاويات على الطرق التجارية بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، مما يعزز من مكانة ميناء بربرة كمرفأ تجاري إقليمي رئيس يخدم منطقة القرن الأفريقي[xxvii].

ومن جهتها، أعلنت المملكة العربية السعودية إطلاق خط ملاحي جديد في مارس 2020 يربط بين مينائي الملك فهد وجدة الإسلامي السعوديين مع موانئ الصومال وكينيا، بهدف زيادة التبادل التجاري، وربط الموانئ السعودية بموانئ شرق أفريقيا[xxviii].

وإذ يشهد القرن الأفريقي حالة من سباق القوة فيما يتعلق بالموانئ البحرية، تواصل جيبوتي مساعيها لكسب المزيد من الثقل الإقليمي كمركز رئيس للتجارة والأمن، حيث لم تواجه جيبوتي خلال السنوات الأخيرة سوى منافسة إقليمية ضئيلة في ظل انغلاق إريتريا على العالم الخارجي بفعل العقوبات الدولية، ومعاناة الصومال الأمنية بفعل تهديدات حركة الشباب المجاهدين وعمليات القرصنة التي تتعرض لها سواحلها. إلا أن ثمة حالة من التنافس الجديد على الموانئ الاستراتيجية تظهر بشكل جلي في ضوء الاهتمام المتزايد بميناء بربرة بأرض الصومال، الذي قد يتحول لبوابة لوجستية لشرق أفريقيا. فضلاً عن التنافس بين مينائي جيبوتي ولامو الكيني، وكذلك التنافس بين مينائي دار السلام بتنزانيا ومومباسا بكينيا، خاصة بعد اعتماد بوروندي في أعمالها التجارية على الأول[xxix]، الأمر الذي يضع المنطقة أمام مسار آخر محتمل من التفاعلات في المستقبل، في ضوء احتدام التنافس بين موانئ منطقة القرن الأفريقي لتعظيم المكاسب الاقتصادية.

التداعيات

يحمل التنافس الدولي على الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي بعض الآثار المترتبة عليه، والتي تشمل طبيعة العلاقة بين الموانئ وبعضها البعض، إذ يتصاعد التنافس بينها، كما هو الحال بين مينائي جيبوتي ومومباسا الكيني، بهدف نيْل لقب أكبر ميناء في أفريقيا والتحول لنقاط لوجستية مهمة للنقل والتجارة والاتصال مع العالم الخارجي[xxx]، وتتنافس موانئ جيبوتي وبربرة الصومالي وبورتسودان السوداني على البحر الأحمر بخصوص التجارة الخارجية لإثيوبيا[xxxi]. ومن شأن تطوير ميناء بربرة بأرض الصومال أن ينهي احتكار ميناء جيبوتي في المنطقة، إذ تشير التقديرات إلى أنه مع الانتهاء من تطوير ميناء بربرة بتمويل إماراتي بريطاني، سيتم تخفيض حصة ميناء جيبوتي من البضائع الإثيوبية إلى 30%[xxxii]، وسيصبح بربرة مركزاً إقليمياً للتجارة والنقل في القرن الأفريقي، ومن المحتمل أن يكون وجهة لقاعدة عسكرية أمريكية في ضوء المخاوف من تنامي النفوذ الصيني في جيبوتي. ومن ثمّ، يبدو هذا التنافس إيجابياً في ضوء القدرة على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وما تنطوي عليه من تدفق للأموال الأجنبية بهدف تنشيط اقتصادات دول المنطقة.

ويمكن الجزم بأن الاندفاع نحو الموانئ البحرية في المنطقة قد ولَّدَ حالة تنافس شديدة بين القوى الإقليمية والدولية لم ترقَ بعد إلى علاقات صراعية أو صدامية، وهو ما تمثل في التنافس الصيني-الأمريكي، خاصة بعد إقامة بكين قاعدة عسكرية لها في جيبوتي وتنامي نفوذها البحري في البحر الأحمر، والتحركات الروسية لبناء نفوذ بحري في البحر الأحمر، وهو أمرٌ أثار قلقاً أمريكياً وغربياً. كما برزت بعض المحاولات التركية القطرية للسيطرة على بعض الموانئ الصومالية، ومينائي بورتسودان وسواكن السودانيين، في محاولة لتقويض أو مزاحمة الأدوار العربية الأخرى في المنطقة.

ومع أن البعض قد ينظُر إلى هذا التنافس باعتباره عاملاً سلبياً يؤثر على أمن واستقرار القرن الأفريقي، خاصة في حال استخدام الموانئ البحرية لأهداف عسكرية، إلا أنه في نفس الوقت قد يمثل حالة إيجابية بإتاحته لدول القرن الأفريقي الاستفادة من الاهتمام الدولي المتجدد بالمنطقة، خاصة على الصعيد الاقتصادي المتمثل في زيادة الاستثمارات وتعزيز نشاط التجارة، وتحسين البنية التحتية اللوجستية، وإبرام صفقات جيدة بخصوص تأجير القواعد العسكرية، وما يترتب على ذلك من إنعاش لميزانيات دول المنطقة.

ومن الناحية الاستراتيجية، من شأن وجود القواعد العسكرية أن يُضفي نوعاً من الاستقرار الأمني بالنسبة للدول المضيفة مثل جيبوتي، كما يقدم صورة إيجابية لزعماء المنطقة بشأن علاقاتهم مع القوى الدولية وأقوى الجيوش في العالم. وهناك بعض الدول مثل إريتريا التي يمكنها استغلال الاهتمام الدولي بموانئها في تحقيق الانفتاح على المجتمع الدولي، وتعزيز حضورها إقليمياً ودولياً بعد سنوات من العقوبات الدولية. كما يستطيع إقليم أرض الصومال أن يستغل تلك الفرصة في توسيع دائرة علاقاته الدولية سعياً إلى نزع الاعتراف به من المجتمع الدولي.

وفي منظور التكامل الإقليمي، باتت الموانئ البحرية تشكل أساساً للشراكات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، وهو ما برز في التحركات المتتالية بشأن تعزيز عملية التكامل الإقليمي التي تقودها إثيوبيا، ويدلل عليها زيارة رئيس حكومتها آبي أحمد، إلى كينيا في 9 ديسمبر الفائت لافتتاح مشروع طريق هواسا-مويالي بطول 502 كيلومتر، والذي يعد جزءاً من مشروع لابسيت Lapsset الذي يربط بين إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان[xxxiii]. ومن الجلي أن لإثيوبيا مصلحة استراتيجية في الوصول إلى كافة الموانئ في القرن الأفريقي والمحيط الهندي في إطار استراتيجية رئيسة يرتكز عليها مشروع آبي أحمد الإقليمي القائم على ضمان التقدم الاقتصادي لأديس أبابا، والتغلب على الجغرافيا السياسية التي جعلت منها دولة حبيسة، وهو ما عزز المساعي الإثيوبية لامتلاك حصص في موانئ المنطقة مثل دوراليه في جيبوتي وبورتسودان في السودان ولامو في كينيا وبربرة في أرض الصومال، كما تنخرط بقوة في بعض المشروعات الإقليمية التكاملية[xxxiv].

استنتاجات عامة
  • ثمة علاقة طردية بين ازدياد أهمية كل من منطقة القرن الأفريقي والموانئ البحرية نتيجة التفاعلات والتجاذبات الدولية والإقليمية المتلاحقة فيها، وما ينعكس على ذلك من توجه القوى الإقليمية والدولية نحوها.
  • يظل استقرار أمن المنطقة النسبي مرهوناً بعدم تطور التنافس الدولي والإقليمي فيها إلى صراعات أو صدامات بين القوى الفاعلة، مما يدفع نحو مزيد من العسكرة للمنطقة.
  • يظل السباق على الموانئ البحرية في القرن الأفريقي قائماً في ضوء احتدام التنافس الدولي، والرغبة في بناء النفوذ في بلدان المنطقة.
الهوامش

[i] عارف عادل مرشد، “أمن البحر الأحمر بين أمن الطاقة ومصالح القوى الإقليمية والدولية”، آراء حول الخليج، 14 مايو 2019، متاح على: https://bit.ly/3qOchcx

[ii] Willem van den Berg, Jos Meester, Ports & Power: the securitization of ports politics, in Maritime Insecurity Dilemmas amidst a new scramble for the horn?, Horn of Africa Bulletin, March-April 2018, Volume 30, Issue 2, PP. 12-16.

[iii] David H. Shinn, The Red Sea: A magnet for outside powers vying for its control, The Africa Report, 27 November 2020. Available at: https://bit.ly/374RN7q

[iv] Gitonga Marete, East Africa ports in fresh push to attract shipping lines, The East African, 15 January 2018. Available at: https://bit.ly/37NhA3l

[v] “ميناء هوبيو وأهميته الاستراتيجية في ظل التنافس على موانئ الصومال”، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، 1 مارس 2018، متاح على: https://bit.ly/33ZvtKD

[vi] Makiri Manase, Fredrick Ngangaii, An Assessment of Container Efficiency in East Africa Ports Using data envelopment analysis (DEA): The case of Dar es Salaam & Mombasa ports, World Maritime University, 11 March 2019, PP. 19-24.

[vii] أحمد عسكر، “التنافُس الصيني-الهندي في القرن الأفريقي: المصالح والتداعيات”، مركز الإمارات للسياسات، 15 نوفمبر 2020، متاح على: https://bit.ly/3n0tn3A

[viii] Horn of Africa sea ports gateway to trade, investment, Trade Mark. Available at: https://bit.ly/33XEUtM

[ix] Africa’s biggest shipping ports, Fahamu Networks for Social Justice. Available at: https://bit.ly/36XQuqL

[x] Max Bearak, In strategic Djibouti, a microcosm of China’s growing foothold in Africa, The Washington Post, 30 December 2019. Available at: https://wapo.st/37GRm28

[xi] Africa’s biggest shipping ports, Fahamu Networks for Social Justice, Available at: https://bit.ly/36XQuqL

[xii] Andreu Sola-Martin, Ports, military bases and treaties: Who’s who in the Red Sea, The Africa Report, 13 November 2020. Available at: https://bit.ly/37RsiWf

[xiii] Middle East Power Struggle Plays Out on New Stage, The Wall Street Journal, 1 June 2018. Available at: https://on.wsj.com/3mSwXgg

Show More
Back to top button
error: Content is Protected :)