Home

ثقافة وفنون : رباب نمر ابنة الإسكندرية الرسامة المولعة ببحرها

فاروق يوسف

بقلم : الكاتب العراقى فاروق يوسف

رسامة مصرية صنعت عالمها بتأثير المحيط الاجتماعي الذي حاولت أن تصل إلى خلاصاته البصرية، كان اللون جزءا من ذلك العالم ولم يكن سيده.

يحب الرسامون الكائنات والأشياء التي يرسمونها إلى درجة أنهم يشعرون معها أن تلك الكائنات والأشياء ترافقهم وتترفق بهم أينما حلوا. فهم ينظرون من خلالها إلى العالم الخارجي كما لو أنها تحل محل عيونهم. وقد يحدث العكس فتكون تلك الكائنات والأشياء وسيلتهم للتعرف على أنفسهم والتعريف بها كما لو أنها مرآة وجودهم.

المصرية رباب نمر تنتمي إلى النوع الثاني الذي يوجه نظره إلى الداخل. شغفها برسم العيون يقود إلى ولعها بإشراك المتلقي في عملية التسلل إلى أعماقها. تلك الأعماق التي تمتلئ بالحب وتبشر به. حب الناس الذين مروا بحياتها وحب المدن التي عاشت فيها وحب المناظر الطبيعية التي أثرت فيها ورسمتها.

مزاج الإسكندرية الطري 

غالبا ما تختزل في أشكالها وتتقشف في ألوانها غير أن كل شيء يكتسب طاقته التعبيرية من إلهام داخلي يصدر عن علاقة حب ليس من الصعب تخطيها. ذلك أسلوب يخلقه الحب ويهبه الكثير من خفته وعمقه. لقد سبقها الأخوان وانلي “سيف وأدهم” في التأثر بمزاج الإسكندرية. المدينة التي تحضر بين حين وآخر في رسومها. لقد لعب المزاج السكندري دورا عظيما في تربيتها العاطفية.

تعود نمر إلى طفولتها حين يتعلق الأمر بالإسكندرية. ذلك الشيء العذب الذي يمر كالأغنية التي تتشبه بالمياه. رسمت سفينة تتقاذفها الأمواج بأقل ما يمكن من الألوان في “الصبر جميل”. وهو عنوان أحد معارضها. في ذلك المعرض استعادت مفردات كثيرة صارت مع الوقت جزءا من أحلامها وكوابيسها. غير أن كل شيء يظل رهين حبها العميق لمدينة طفولتها.

تحتفي بالأبيض والأسود كما لو أنها تستدرج المتلقي إلى عالم تعد بأنه سيكون ملونا. تلك حيلة لن يكون المتلقي ضحيتها بقدر ما يتورط في صناعتها. فهو من خلالها يتعرف على جمال مختلف.      

علاقة الناس بالبحر هي في الحقيقة تجسيد لعلاقة الفنانة بالبحر. لا بد أن نبحث عن وجهها بين الوجوه التي ترسمها. لا يخطئ الرسام طريقه إلى نفسه. عبارة “حلوة يا بلدي” وهي عنوان أحد معارضها تعني للمصريين الصمت الذي يختزل كثيرا من الكلام. “حلوة” لذلك سيكون جمالها مفارقا لكل معنى متاح. وسيكون رسمها مناسبة للعب بالمفردات الجمالية.

المتلقي يتعرف على جمال مختلف في لوحات نمر

ولدت في الإسكندرية عام 1938. أنهت دراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1963. حصلت على درجة الأستاذية في الفنون الجميلة من أكاديمية سان فرناندو بمدريد. عاشت سنوات في إيطاليا. عام 1994 نالت نمر جائزة تقديرية في بينالي الشارقة. كما حصلت على جائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي عام 1998 وفي عام 2007 نالت جائزة بينالي الإسكندرية. وأقامت أكثر من أربعين معرضا شخصيا.

تقول الفنانة “إن العنصر الإنساني هو أساس عملي والحياة عندي رحلة”. تلك جملة تلخص فلسفة العمل والتفكير لدى رباب نمر التي مزجت بين رحلة حياتها الشخصية وطريقتها في النظر إلى العالم حولها، هناك حيث يتمحور كل شيء حول الإنسان الذي هو ضالة الرسم بالنسبة للفنانة التي تفسر تلك العلاقة بقولها “أشكالي تتآلف في إيقاع تعبيري ينساق مع التراكيب اللونية والمناخ العام للصورة الذي ينبع من اقتناعي بأن القيمة الفنية إنما تكمن في العالقة الحوارية بين الذات والعمل الفني. تلك العلاقة التي تزيد من الشحنة التعبيرية للعناصر والأشكال“.  

في إطار تلك الفكرة تمزج نمر بين ما تراه وما تتذكره. بالنسبة لها فإنها تنتزع صورة من صورتين تقعان في زمنين مختلفين. زمن تستيعده الرسامة باعتباره نوعا من الحلم وزمن تعيشه بتلذذ الحاضر. وما بينهما تخترق بإنسانها محنة الانتماء إلى زمنين. ترسم لكي ترى كائناتها وهي تنظر إلى كائناتها لكي ترسم. تلك معادلة هي خلاصة تجربتها في الرسم والحياة معا. فهذه الفنانة عرفت كيف تستدرج حياتها إلى الفن وفي المقابل فإنها وضعت فنها في خدمة حياتها. 

مدينة الحلم الأبدي

لم يكن في إمكانها أن تكون موضوعية في طريقة تعاملها مع العالم الخارجي. كان ذلك العالم الذي يشكل محيطها هو السبب الذي دفع بها إلى أن ترسم. ستكون لها دائما حصة من عذاب ورفاهية الكائنات التي ترسمها محاطة بطقوسها. إنه الاقبال المصري على الحياة بغض النظر عما يحمله ذلك الإقبال من مفاجآت قد لا تكون في بعض الأحيان. الاحتفال الذي تقيمه نمر بالحياة المصرية هو نوع من الاستعارة التي لا تتطابق مع الأصل. في النهاية يحق للفنانة أن تقول “إنني أرسم ولست ملزمة بالواقع”.

ليس من الصعب أن يهتدي المرء إلى المؤثرات البصرية والثقافية التي شكلت أساسا لتجربة نمر الفنية. البحر يقف في مقدمة تلك المؤثرات لأنها ابنة الإسكندرية المغرمة بتفاصيل الحياة التي أنتجتها تلك المدينة التي شهدت عصورا إنسانية عظيمة، تركت أثرا على حياة سكانها وشكلها المعماري. غير أن البحر بقي شاهدا على تلك التحولات الصاخبة.

للبحر في أعمال نمر حضور طاغ

تقول نمر “أنا حين أسير في الشارع أنظر إلى الناس كيف يتحركون وكيف تسير حتى الحيوانات، القطط مثلا وكيف يجلس الكلب في الشارع والغريب أنه من كثرة عشقي للأنفوشي بدأت تظهر أشياء غريبة في لوحاتي هي انعكاس لألوان المراكب التي أجد أن الصيادين قد سبقوني إليها من غير أي اتفاق مسبق كما صارت موتيفات مصرية قديمة وإسلامية وأيقونات تظهر في لوحاتي من غير أن يعني ذلك أنني كنت أنقلها من الواقع. كل تلك الأشياء كانت تنبعث من وجداني وبأسلوبي الخاص“.

تشبعت نمر بالمشاهد البصرية الساحرة لمدينتها فكانت رسومها بمثابة ثناء بصري على جماليات المدينة لكن من خلال اهتمامها برصد تفاصيل العيش. تلك التفاصيل التي تكشف بشكل دقيق عن علاقة الإنسان بالمدينة. وهي علاقة تتميز بقدر عال من الحب. وهو ما دفع الفنانة إلى أن تقيم عددا من معارضها تحت عنوان “في حب الإسكندرية”.  بالنسبة لها فقد صار المكان الملهم هو أشبه بالجنة التي تقترحها الأحلام. يتعرف المرء حين ينظر إلى لوحات نمر على الإسكندرية لا باعتبارها مدينة عيش فحسب بل وأيضا باعتبارها المكان الذي يلتقي فيه الحلم بالواقع. إنها تظل المكان الذي يأسر الحالمين بواقعه المفتوح على معان مختلفة.

“بالأبيض والأسود” رسمت نمر في بداية مسيرتها الفنية حتى أنها أطلقت ذلك التعبير عنوانا على أحد معارضها. ثم زحفت الألوان تلقائيا. لم يكن ذلك حدثا تقنيا عفويا. حدث ذلك التحول بتأثير التماس المباشر بالموضوعات التي فرضت ألوانها على الفنانة لكي تكون أكثر تعبيرا عن صدقها الفني.

وبالرغم من أن الفنانة قد استجابت لذلك الشرط فإنها ظلت مخلصة إلى زهدها اللوني فلم تكن لوحاتها ملونة بل كانت الأقل لونا إذا ما قورنت بلوحات زملائها وزميلاتها من الرسامين والرسامات المصريين.  

لقد استبدلت نمر اللون بفكرته. بحيث كانت تتعامل مع الألوان رمزيا بالإيحاء بحيث يلقي الشكل الملون بظلاله على ما يجاوره من أشكال. تلك محاولة جريئة نجحت الفنانة من خلالها في أن تفرض طريقة جديدة في التعامل مع تقنيات اللون.

صنعت رباب نمر عالمها بتأثير المحيط الاجتماعي الذي حاولت أن تصل إلى خلاصاته البصرية. كان اللون جزءا من ذلك العالم ولم يكن سيده.

نقلا عن العرب اللندنية 

Show More
Back to top button
error: Content is Protected :)