Home

د. مصطفى فؤاد سالم يكتب :قضايا تحكيم الغاز لمصر وعلامات استفهام كبيرة !

د. مصطفى فؤاد سالم

رئيس اتحاد الحقوقيين العرب وخبير فى القانون الدولي

 قضايا التحكيم الدولى اصبحت ثمة هذا العصركوسيلة مثلى لفض النازعات   وتم إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية التي تنظم التحكيم وأهمها اتفاقية نيويورك لعام 1958 ، كما تم مؤخراً إدراج التحكيم ضمن المواد التي تدرس في عدد من كليات الحقوق على مستوى العالم . وفي ظل تحديات العولمة والنمو المطرد للعلاقات التجارية الدولية ازدادت أهمية التحكيم باعتبار تميزه عن القضاء من نواح عدة أهمها سرعة الإجراءات ومرونتها وسريتها وانخفاض التكلفة ووضع استمرار العلاقات بين الأطراف  ,ومصر . لديها  ريادة  تاريخية للتطور القانوني في منطقة الشرق الأوسط ، ورعم كل هذا تبقى علامة الاستفهام قائمة حول خسارة مصر للكثير من قضايا التحكيم الدولى وتحديدا فى مجالات النفط والغاز واعود بالذاكرة عندما اتخذ مسؤولا ما ,وهو رئيس سابق للشركة القابضة للغازات الطبيعية ومعه وزير البترول حينذاك ( سامح فهمى )  قراراً بفسخ العقد مع الشركات الإسرائيلية إستناداً إلى فتوى أحد المحامين الإنجليز إستشاره رئيس الشركة القابضة  للبترول شخصياً واكتفى برأيه فحدث ما حدث وتوالت على مصر خسائر فادحة وكان أولها حكم التحكيم موضوع هذا المقال ،   

 إذ صدر مؤخراً حكم هيئة التحكيم بغرفة التجارة الدولية فرع جنيف في النزاع القائم بين شركة كهرباء إسرائيل وشركة البحر المتوسط وبين الهيئة العامة للبترول والشركة القابضة للغازات الطبيعية بإلزام الأخيرتين بدفع تعويض قدره 1,76 مليار دولار لشركة كهرباء إسرائيل و 288 مليون دولار لشركة غاز شرق المتوسط، كما ألزم الجانب المصري بسداد كافة مصاريف الدعوى والرسوم وأتعاب المحاماه والفوائد القانونية حتى تاريخ السداد، الأمر الذي يبلغ معه اجمالي التعويض المطلوب ما ينيف عن 2 مليار دولار.

للوهلة الأولى قد يبدو هذا الحكم جزءاً من مسلسل القضايا للاسف  خاسرة  اعتادت عليه الشركات  المصرية فى مجالات كثيرة واغلبها قضايا نفط وبترول فى ظل العقود الدولية والشركات العالمية  حيث تخسر مصر  الملايين لصالح  هؤلاء المستثمرين الأجانب، أما هذه المرة فإن الخسارة جسيمة بشكل غير مسبوق حيث تخطت حاجز 2 مليار دولار فيما يعادل 20 مليار جنيه مصري، وهذا المبلغ يمثل 1\8 الأحتياطي النقدى الذي يبلغ 16 مليار دولار ويمثل ربع تكلفة مشروع قناة السويس ويجاوز ضعف رصيد صندوق (تحيا مصر) الذي تولى الرئيس السيسي شخصياُ جمعه من أجل حفر القناة ، ووفقاُ لأراء المتخصصين في الزراعة فإن هذا المبلغ يكفي لإستصلاح نصف مليون فدان وهي مساحة تزيد عن مساحة الأراضي الزراعية الكاملة لبعض المحافظات، بل أن المشروع القومي للدولة يطمح في زراعة مليون ونصف فدان في الفترة القادمة وقيمة هذا المبلغ تمثل ثلث هذا المشروع، وإذا أخذنا في عين الاعتبار الظروف الإقتصادية التي تمر بها مصر  التى تحتاج الى مزيد من الجهد فالخطب اذن جسيم  وهى محنة غير محسوبة وغير أمينة

 وعلينا ان  نستعرض الجوانب الواقعية والقانونية المتعلقة بالتحكيم الذي خسرناه، وذلك لتحديد الأخطاء واستخلاص الدروس المستفادة، ثم الاجابة على السؤال الذي يطرح نفسه: وماذا بعد؟

ترجع وقائع هذه القضية إلى ماقبل عام 2005 حيث كان الرئيس الأسبق مبارك قد أتفق مع رئيس الوزراء الإسرئيلي إسحاق رابين على أن تستبدل مصر شحنات البترول التي كانت تصدرها لإسرائيل بموجب معاهدة السلام (1979) بشحنات من الغاز الطبيعى الذي كان متوقع إنتاجه في مصر بكميات كبيرة وذلك بعد زيادة إستهلاك مصر من البترول ونقص الكميات المستخرجة منه، و بناءً على هذا الإتفاق صدرت تعليمات رئاسية إلى وزارة البترول في هذا الشأن، وتول جهاز امني سيادي الإشراف على هذا الملف، وبتاريخ 30/6/2005  قام وزير البترول المصري (سامح فهمي) بتوقيع مذكرة تفاهم مع وزير البنية التحتية الإسرائيلي بشأن ضمان الحكومة المصرية توريد الغاز لأسرائيل.

وبتاريخ 29/1/2005  تم تأسيس شركة مصرية تعرف بأسم (شركة غازالشرق المتوسط) كشركة مساهمة، شارك في تأسيسها العديد من الشركات والأشخاص وكان من ضمن أغراضها هو نقل الغاز من مصر إلى إسرائيل ضمن من خلال شبكة الأنابيب تنشئها الشركة. وبتاريخ يونيو 2005 تم توقيع عقد توريد الغاز إلى إسرائيل بين كل من الهيئة العامة للبترول والشركة القابضة للغازات الطبيعية كبائع وشركة كهرباء إسرائيل كمشتري وذلك عبر أنبوب الغاز الذي تديره شركة غاز شرق المتوسط ، وتضمن العقد شروطاً تحدد سعر البيع ومدة العقد وكيفية مراجعة الأسعار وطرق السداد وإلتزمات كل طرف من الموقعين على هذا العقد وتم البدء في تنفيذ هذا العقد منذ ذلك التاريخ .

ولمزيد من الفهم المتعمق لمسألة بيع الغاز فإنه لايمكن إغفال الجانب السياسي في هذا الشأن، ذلك أنه في الفترة التي تلت توقيع إتفاقية الغاز مع إسرائيل زادة حدة الصراع مابين الحكومة والمعارضة بكل أطيافها  وتم إدخال مسألة بيع الغاز في إطار الصراع السياسي مع الحكومة للحصول على المزيد من المكاسب السياسية، فتم إتهام المسئولين بالحكومة بتصدير الغاز لإسرائيل بأسعار تقل عن الأسعار العالمية وأن ثمة فساد ومصالح خفية شابت قرار توريد الغاز لأسرائيل، ورفعوا شعار أوقفوا بيع الغاز لأعداء مصر وحاكموا المسئولين عن هذه الجريمة.

وفي عام 2008وتحت تأثير هذه الحملة نظرت محكمة القضاء الإداري دعوى مرفوعة بطلب إلغاء عقد توريد الغاز لإسرائيل وتم حشد الرأي العام ضد الصفقة، فصدر الحكم بإلغاء عقد الغاز مستجيباً للرأي العام والمزاج الشعبي، وقد طعنت الحكومة في حكم القضاء الإداري أمام المحكمة الإدارية العليا التي اصدرت في عام 2009 حكمها بإلغاء حكم أول درجة تأسيساً على أن عقد توريد الغاز لإسرائيل يعد من أعمال السيادة ولايجوز الطعن عليه أمام القضاء. وأنتهت بذلك المشكلة من الناحية القانونية ولكنها ظلت عالقة في وجدان الشعبي الذي لم يقتنع بحكم الإدرية العليا.

 و عقب قيام ثورة 25 يناير 2011 أكتسبت حملة تسييس موضوع تصدير الغاز لإسرائيل بعداً جديداً حيث تم تقديم كبار المسئوليين في نظام مبارك إلى المحاكمة بما فيهم مبارك نفسه، وتم تفجير أنبوب الغاز عدة مرات لمنع تصدير الغاز وقد توقف تصديره من الناحية الفعلية جراء تلك التفجيرات.  

وفي هذا المناخ أستجاب كبار المسئولين بالهيئة العامة للبترول لهذا  الضغط السياسي وقرروا الاستجابة لهذا الضغط الشعبي والسياسي ، وأعلن   رئيس مجلس أدارة الشركة القابضة للغازات الطبيعية وقتها  إلغاء عقد توريد الغاز لإسرائيل من جانب واحد غير مبالي بالتداعيات القانونية التي ستترتب على هذا القرار الغير مدروس وزعم أن لديه الأسباب القانونية التي تبرر هذا الفسخ بالإرادة المنفردة تأسيساً على الفتوى القانونية التي قدمت له من مكتب محاماه إنجليزي تؤكد سلامة قرار الإلغاء من الناحية القانونية، والسؤال هنا لماذا لم يلجأ إلى هيئة التحكيم المختصة لتقوم هي بفسخ هذا العقد إذا كان لديه المبررات القانونية كما يقول، بدلاً   تلك القرارات غير المدروسة .

ويتبين من أروقة التحكيم، أن شركة كهرباء إسرائيل أ سست دعواها على خطأ الجانب المصري الذي يتمثل في مخالفتين أساسيتين أولهما تقاعسها في تنفيذ إلتزامها بتوريد الغاز في الفترة مابين 2011 و 2012، وثانيهما إلغاء عقد بيع الغاز في 19/4/2012 من جانب واحد دون وجود مبرر قانوني، والواضح أيضاً أن مصر قد دفعت بأن التفجيرات المتكررة لأنبوب الغاز من قبل بعض الأرهابيين في سيناء يعتبر من قبيل القوى القاهرة التي تمنع المسئولية وفقاً لقواعد القانون الدولي، كما دفعت مصر بأن الجانب الإسرائلي لم يلتزم بسداد ماعليه من مستحقات الأمر الذي يعطيها الحق في فسخ العقد من جانب واحد، والواضح أن الهيئة لم تقبل هذين الدفعين، ذلك لأنه يقع على عاتق الدولة المصرية حماية أنابيب نقل الغاز وأن التقصير في حماية تلك الأنابيب وإصلاحها هي مسئولية الهيئة العامة للبترول والشركة القابضة للغازات الطبيعية حيث أن الأخيرتين مملوكتين للحكومة المصرية بالكامل وكان بوسعهما التنسيق مع الحكومة المصرية لتأمين الأنابيب، والظاهر أن هذه التفجيرات لم تكن مقنعة للمحكمة، وأما عن إلغاء العقد بالإرادة المنفردة بزعم عدم تسديد الجانب الإسرائيلي ماعليه من مستحقات فالظاهر أيضاً أن المستندات التي قدمت في هذا الشان لم تكن مقنعة للمحكمة.

وهنا يجب التنويه أن المجرى العام في أحكام القضاء في هذا الشأن أنه لايجوز لأحد أطراف العقد أن يلغي عقد على هذا المستوى من الأهمية بإرادته المنفردة إلا في حالات استثنائية وخطيرة، و يفضل الجميع الرجوع إلى المحكمة المختصة لطلب الإلغاء.

وإذا كنا بصدد تقييم ما حدث، فإن السؤال الذي يطرح نفسة بقوة هو: هل كان قرار إلغاء عقد التصدير مدروساً بحق من الناحية القانونية بكل أبعاده سواء في حالة الفشل أوالنجاح أم أنه كان قراراً قد طغى عليه الجانب السياسي  بضغوط الظروف التى مرت بها مصر دون مرعاة الصالح العام للبلاد.

 وقد لوحظ أن رئيس مجلس الإدارة الأسبق للشركة القابضة للغازات الطبيعية  قد أعتمد اساساً في قرار الإلغاء على رأي محاميه الإنجليزي  وقد  نصب نفسه خبيراً قانونياً يتكلم في أمور قانونية لايعلمها إلا كبار المتخصصين في مجال القانون ومنها أنه يتحدث في الفرق بين سقوط الحق بعدم إستعماله في أنظمة القانون الأنجليزي (Common Law) وأنظمة القانون اللاتيني، ويتكلم في التحكيم التجاري الدولي كأنه أحد خبرائه المعدودين، و يدعي أنه على يقين بكسب التحكيم والواقع أن ما فعله سذاجة قانونية غير مقبولة، ذلك أنه كان عليه أولاً أن يعلم أن احتمال الفشل وارد تماماً كاحتمال النجاح وكان يجب أن يسأل محاميه الذي أفتى له عن التعويض الذي يمكن أن يُحكم به إذا لم ترى المحكمة عدم أحقية مصر في إلغائه، وكان عليه ثانياً أن يسأل أيهما أفضل وأكثر أماناً، إلغاء العقد من جانب واحد أم اللجوء إلى التحكيم لفسخ العقد، وكان عليه ان يسأل ويطلب أراء مكتوبة من كبار القانونيين المتخصصين لتكون تحت يده لإتخاذ القرار، وأعني هنا القانونيين الحقيقيين ، ومن المؤكد أن التحكيم قد بدأ في عام 2011  بتعويض محدود إلا أن قراره بإنهاء العقد في 19\4\2012 كان خدمة جليلة للخصوم وهي القشة التي قصمت ظهر البعير.

ومن ناحية أخرى فإن  رئيس الشركة القابضة للغازات الطبيعية الاسبق  ليس هو المسؤل الأوحد _ إذا صحت مسؤليته – عن تلك الكارثة إنما يشاركه فيها كبار المسئولين في هيئة البترول بما فيهم الوزير ورئيس الهيئة الذين شاركوا في هذا القرار، ويجب أن يتحملوا مسؤليتهم القانونية في هذه الكارثة كل بقدر الإختصاص المنوط به في هذا الشان.

ويبقى أن نعلق أخيراً على تصريح الحكومة التي نفت فيه مسئوليتها عن هذا التحكيم ونهمس في أذن متحدثها الرسمي أليست هذه الشركات أو الهيئات المحكوم عليها هي جهات تابعة و مملوكة لحكومتنا الرشيدة  ويتعين حسابها.!

Show More
Back to top button
error: Content is Protected :)